0

من المدونة

“مدخل إلى اللسانيّات الاجتماعيّة”: في تشابك الاجتماع بالإنسان

د. نادر سرّاج في ترجمته إلى العربيّة كتاب هنري بوييه Henri Boyer “مدخل إلى اللسانيّات الاجتماعيّة” (Introduction á la sociolinguistic)الصّادر مؤخّرًا عن المنظمة العربيّة للترجمة في بيروت (تصدير د. الطاهر لبيب ومراجعة بسّام بركة وأحمد حاجي صفر) يعيد إلى الأذهان، في مقدّمته للترجمة، تشابك الاجتماع بالإنسان، واللغة بالهويّة والحداثة، والرقمي بالكتابي، ويلحّ على أن اللسانيّات أمست حقلًا علميًّا له وجاهته وينضبط بأحكام صارمة ومنهجيّة، إذ تمادت مطارحه المعرفيّة لتتجاوز دوائر اللغة وحدها، وتعانقت مع غيرها من حقول العلم، فخرجت من ضيق التخصّص إلى سعة الحياة، فرأى أنّ الكتاب قنطرةُ الحرف والمعنى، اضطلع العلماء والمتخصّصون لتدبيج معارفهم في جنباته وثنيّاته، وكان وسيلة لجسر الهوّة بين الأزمان والأماكن، تحقيقًا للمراكمة المعرفيّة، فيرى أنه لعلّ خيرَ مفتتح لهذا التقديم مقولتان تتباعدان زمنًا ولغةً، وتتّشح أفكارهما ببلاغة تداوليّة لا تقليديّة، وتتقاربان روحًا ومضمونًا وتمثّلًا؛ الأُولى جاحظيّة السّبك، منسولة من كلاسيكيّات تراثنا اللغوي العربي، تحتفي بخير “جليس في الأنام كتابُ”، موضوعًا كان أم مُترجمًا، وأيًّا كانت لغته، فيحسب أن المؤلِّف والمترجم سواء في تعاضد أدوارهما، وواحدهما لا يكون أعلى مرتبةً من “شريك” الحِبر والورق – والأحرى لوحة المفاتيح، في التناوب على إنتاج معرفة حيّة. يقولُ الجاحظ: “الكتابُ هو الّذي إذا نظرْتَ فيه أطالَ إمتاعَك، وشَحَذَ طِباعَك، وبسَطَ لسانَك، وجدَّدَ بَنانَك، وفَخَّمَ ألفاظَك، وبَحْبَحَ نَفْسَكَ، وعَمَّرَ صَدْرَك”، فأمله في أن يحظى الكتابُ، بيت القصيد، بنسخَتَيه الفرنسية والعربية، بجانب من هذه السِّمات، بل المتطلّبات الجاحظيّة الصّعبة المنال. 

أمّا الثّانية، فحديثة العهد، واستشرافيّة التوجّه ولسانيّة العمق والمرتكز، صاغها العالِم الأنثروبولوجي كلود ليفي شتراوس (Claude Lévi – Strauss)، ومفادها “أنّ اللسانيّات بفضل توجّهها العلمي ستصبح جسرًا تعبره كلّ العلوم الأخرى إن هي أرادت أن تحقّق نصيبًا من العِلم”، فربطَ بدراية موصوفة بين ارتقاء العِلم وعِلميّة اللسانيّات، وهذان متى اجتمعا أسبغا على الموصوف سِمَةَ التميّز والفرادة. 

يطمح د. سرّاج إلى أن يفي تقديمه بأغراضه المُرتجاة، فيرغِّب القرّاء بالاطّلاع على مضامين الزاد المعرفي الذي يحتقبُه كتاب “مدخل إلى اللسانيّات الاجتماعيّة”، بدأب العالِم اللساني الاجتماعي المتمكّن، يستطلع واضعُه حقائق هذا العلم، ومجالات تطبيقه، الحاضرة والمُستترة في حيوات الكائنات اللغويّة – الفرنسية أو الأوروبية – ويستزرعه، والمترجمُ فيما يعنيه، تدريجًا، في تُربتَي الثقافة الفرنسية أوّلًا، فالعربية ثانيًا، استيعابًا وتمثلًا وتقريبًا وممارسة، فيما يرى أنّ الفصلَ في كلتا الحالتين متروك لعناية القرّاء المهتمّين، والمتنبّهين والشغوفين، كي لا نقول المُشكّكين حتّى اليوم بجدوى تدريس اللسانيّات الغربية الهوى والهويّة التي لا يرى بعضهم فيها سوى أنّها تسير عكس التيّار، بمعنى أنها تولي تقعيد اللهجات والدوارج ودراستها وترغيب الناشئة بالإقبال عليها، اهتمامات تعليميّة متزايدة، في الأوطان مثلما في المهاجر، على حساب الفصحى، وتمحضها شرعيّةً في غير محلّها.

في تصديره لترجمة د. سرّاج، يشير د. الطاهر لبيب إلى أنّه كتاب لا يُلخّص، ففصوله وفروعها مختصَرة، واضحة، ميسَّرة، هو، مضمونًا ومراجعَ، خلاصة اطّلاع واسع، دقيق، على ما له صلة بالسوسيولسانيّات أو “اللسانيات الاجتماعيّة”، منذ نشأتها إلى اليوم، وتخصيصًا ما كان من أمرها في أوروبا وأميركا الشماليّة، مع توقّف أطول عند الحالة الفرنسيّة وتطبيقاتها، ذلك أنّ هدف الكتاب معلَن، مصاغ بوضوح: التعريفُ بمجال معرفي، حديث نسبيًّا، يحمل رؤيةً جديدة إلى الألسن واللغات في علاقتها بالواقع الاجتماعي المتنوّع المتغيّر.

ويتساءل د. لبيب عن الجدوى من نقل هذا الكتاب إلى العربيّة، فيعلن أنّ جدواه لا تنحصر في ما يؤخذ عنه من معارف في مجاله، فهي أيضًا، ولربّما أساسًا، في ما يوحي به للباحث العربي من مسارب نظريّة ومنهجيّة وتطبيقيّة يمكنه أن يتّخذها أو يوازيها أو يتقاطع معها أو يعاكسها في تناول الظواهر العربية من وجهة سوسيولسانيّة.

ترجمة د. نادر سرّاج لكتاب بوييه تدفع إلى ضبط المصطلحات السّائبة ويوحي، أيضًا، بمسارب اهتمام وموضوعات بحث جديدة، بدءًا بالنّبش في لسان العرب ولغتهم، لا من داخلهما فحسب، وإنّما في علاقتهما بالواقع الاجتماعي المتغيّر. ذلك أنه هناك، من بين قدامى العرب، من تُستحضر أسماؤهم للتدليل على ما كان لهم من تنبّه إلى هذه العلاقة، ولو بدرجات وصياغات مختلفة، فلكلّ مجتمع أوضاعه السوسيولسانيّة، يطرحها على الباحثين ويرتّب أولويّاتها. هذه الأوضاع معقّدة، عربيًّا، خصوصًا إذا نُظر إليها من جهة اللغة أو اللغات المستعملة: أغلبها خليط لغات، مع تدريج (من الدارجة) وتلهيج، وبعضها تكاد العربية فيها أن تغيب. هذا يعني أن المطلوب في تناول الحالة العربيّة واسع الجهدِ، مُضنٍ، يتجاوز مبادرة الأفراد إلى العمل الجماعي. 


“بعض ما يثيره الكتاب، من قضايا، له ما يشبهه في الوضع العربي. منه ما هو مألوف لدى الباحثين العرب، مثل “احتكاك اللغات”، بما في ذلك ازدواجيّة اللغة أو ثنائيتها، وما قد يتبع ذلك من قول عن هيمنة لغة على أخرى؟”

بعض ما يثير الكتاب من قضايا له ما يقابله أو يشبهه في الوضع العربي. منه ما هو مألوف لدى الباحثين العرب، مثل “احتكاك اللغات”، بما في ذلك ازدواجيّة اللغة أو ثنائيتها وما قد يتبع ذلك من قول عن هيمنة لغة على أخرى. منه، أيضًا، ما يحتاج إلى المزيد من جرأة الطرح، مثل “موت اللغات”: هل العربيّة لغة لا تموت؟ نعرف الجواب العاطفي أو الأيديولوجي ولا نعرف الجواب العلمي، وإن كنّا نعرف أنّ لغةً لا تُستعمل تموت. ومهما كان فوضع العربية يحتاج إلى “سياسة لغويّة” وضعها الكتاب في سياق أوروبي – فرنسي، وللباحث العربي أن يبيّن، بمقاربة جديدة، أهميّتَها وآليّاتها، عربيًّا. 

وكان الباحث العربي قد التفت عند بداية عصر النهضة شرقي السويس وغربها إلى مسألة اللغة والترجمة والنقل، كما عند جرجي زيدان وإبراهيم اليازجي والشيخ أحمد رضا، فازدهرت صناعة القواميس، أي الألسنيّة في أرقى مراتبها، فجاء بطرس البستاني بمعجمه “محيط المحيط” جرى فيه على منهج “محيط” الفيروزأبادي وكان ابن منظور سمّى قاموسه “لسان العرب”، أي لغتهم، فمزج قوام اللغة بروح اللسانيّة، فأنستْ ببهاء تاريخ المفردة مرتّبه باعتبار أول حرف منها. وما إن عرّب سليمان البستاني “إلياذة هوميروس” نظمًا، وأسّس محمد روحي الخالدي بدايات الأدب المقارن في مؤلّفه “تاريخ علم الأدب عند الإفرنج العرب وفكتور هوغو” (1904)، حتى ثَبُتَ أن علم اللغة لهو تبادل البحث العلمي للغة كظاهرة بشريّة له تطبيقات في ميدان تعلّم اللغات الأجنبيّة. ومنذ “نشوء اللغة العربيّة” (1938) للأب أنستاس الكرملي حتّى “المُغني الأكبر” (1987) لحسن سعيد الكرمي اتّصلت العربيّة وثيقًا بتراثها الغنيّ من “فقه اللغة” للثعالبي إلى “نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد” لابراهيم اليازجي ما ردّ العربيّة إلى “الجنى الداني في حروف المعاني” حيث اتقانك بمواقع حروف الجرّ هي إحاطتك باللغة، فلا عجب أنّ ترجمة د. سرّاج “مدخل إلى اللسانيات الاجتماعيّة” إلى العربيّة لهي بحقّ نقل الخاطرة وتصويرها وإنزالها في مواقعها السليمة من البيان صلة وصل بأندلس اللغة. هذه بضاعتنا، منذ ترجم ابن رشد أرسطو عن اللاتينيّة، رُدّت إلينا.

https://2u.pw/bM06Ui

اطلب الكتاب الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *